تنادت من أعماق الكون البعيد صرخة خافتة
شدنى إليها نبرة حزن صامتة
تعالت وتعالت حتى فاقت أصوات الضحكات
سكت الجميع وتنادوا وهم فى سبات …
نظرت فوجدت الشمس قد مالت فى الأفق
والأرض صفراء بلونها والشفق
وجدت يداً تمتد إلى الشمس لتطوقها
سيل من الدماء يموج ببطىء عليها …
————————-
تابعت عيناى تلك اليد الجريحة ..
إنه طفل تجاوز الخامسة البارحة ..
يحتضن بيده السليمة إمرأة قد فارقت روحها
ترتدى عباءهً لم أفرق بين لون الدماء ولونها …
أدركت .. آه أنها أمه
بدت من رقدتها وكأنها تضُمه
ويديها مطوية عليه فى شوق
أيقنت أنها دفعت طفلها عنها
لتفديه بروحها عما أحل بها ..
لكنه … وحسرتاه لم يسلم
أسمع أنينه وكأنه يتكلم
يصرخ .. يبكى .. ينعى .. يتألم
ودموعه تسرى على خديه كأنها قطع من البللور
وقد إنعكس عليها ضوء الشمس .. فبدت كنقط من نور …
—————————–
لم أدرى إلا وأنا أبكى عليه
أبكى على حياته التى ضاعت بين يديه
أبكى على أمه التى يحتضنها بذراعيه
ودموعه التى أشفقت من الحزن عليه
وبكاؤه الذى أزهق ما بقى من صوت لديه
ونحيبه الذى أضاع الكلمات بين شفتيه …
—————————-
مسكين أنت يا ولدى الصغير ..
كيف ستقوى على ذل الحياة المرير ؟؟
كيف ستنجو بل كيف ستهرب من القدر والمصير .. ؟؟
كيف يكون لك غدٌ حلوٌ فى زمن الأعاصير .. ؟؟
مسكين أنت يا ولدى الصغير ...
————————–
مسكين أنت من الصغار ..
أطاحت بك عقول الكبار
أضاعتك فى منطقة الدم والنار
لن تقوى على مداومة المسيرة فى وضح النهار
مسكين أنت من الصغار ...
—————————-
مسكين أنت يا ولدى الجريح ..
ذهبت آمالك هباءً تجاه الريح
وقلبك المسلوب يبكى من جُرحٍ جريح
لكن نظرتك كنظرة الأفعى الفحيح
مسكين أنت يا ولدى الجريح ...
—————————–
فجأة .. سكت الولد عن النحيب
كأن نكبته بالأمس البعيد لا القريب
نظر إلى السماء ودعى … رباه
كأنه يطلب منه العون على بلواه ...
أرى فى عينيه نظرة إنتقام وعُلا
وفى يدهِ الحجر الصوان قد إنجلى
والثأر ثار فى دمائه وحرى ...
أمال عينيه إلى الحزينة شمس الغروب الصفراء
وبصيص شعاعها يعانق الدماء على رمال الصحراء
صرخ صرخة مدوية وكأنه يناديها
وإرتدت الصرخة على الجبال والوديان حاكيها …
—————————-
هوى إليه أطفال .. ظهروا وكأنهم أطفال جيل قد مضى
وجوههم من الأهوال ماتت وشاب شعرهم وإنكرى
تلاحموا حتى صاروا صفاً واحداً بلا إنتهاء
تعانقوا حتى أصبحوا رباطاً وثيقاً بلا إنفكاك أو إنبراء
تهامسوا حتى وصلت همساتهم عنان السماء
تفرقوا يبغون النصر لا بدافع البغضاء …
———————————————-
نظر الطفل فوجد أحدهم يختبئ هناك خلف السور
ساكناً متربصاً ليُسقط ضحيته ويسيل دماؤها بحور
قذف الطفل بحجره الصغير تجاه نده الرابض هناك ..
أصابه فى مقتل .. فهوى على الأرض يتألم دون حراك ..
رفع رأسه مقاوماً .. ونظر إلى قاتله الصغير ..
صوب سلاحه نحوه لينال منه كما نال من غيره الكثير ..
لكن الصغار تابعوه بأحجرتهم حتى زهقت روحه العسير ..
قضوا عليه وقضى نحبه دون تقديم أو تأخير ...
———————————————
ظهر معاونيه وركضوا خلف الصغار ركضاً ..
ورصاص بنادقهم يتابعهم سبقاً وخلفاً ..
صرخت فيهم تفرقوا يا زهور المكان ..
إنجوا بأنفسكم قبل أن تذوقوا مرار الحرمان ..
ويضيع أملكم الزاهى فى مكان بلا زمان ...
جرى الطفل مع إخوته تجاه الشمس ..
ووراءهم أنفاس تلهث دون همس ..
والأرض تحت قدماى تهتز لنبضات قلبى دون اللمس ..
وعيناى تتابعه والصغار حتى غابوا ..
إحتضنتهم الشمس فى دفئها وذابوا …
…. آه …. آه
——————————————
أدركتنى طلقاتهم .. لم أدرى إلا وأنا أهوى على الأرض ..
تذكرت وأنا أهوى أنى شهيد فداء الوطن والعِرض ..
نظرت إلى الشمس .. وجدتها تبكى ..
تودعنى بحزن وتبتسم لقدرى ..
ولمحت عيناى الصغار فى السماء ..
أرواحهم تحوم مع ملائكة أبرياء ..
أدركت أنهم صعدوا لرب البدء والفناء …
——————————————
ماتوا فداء وطنهم .. حاربوا القسوة والجنون ..
لم يَرضوا بالذل .. ومضوا على عهد مصون ..
قاوموا حتى آخر أنفاسهم .. وكانوا مثالاً للحصون ..
ظن الغادرين فرحاً أنهم ميتون ..
أغمضت عيناى ….
كلا … إنهم أحياء عند ربهم يُرزقون